Minggu, 01 November 2015

الحديث الثالث

(وعن عائشة رضي الله عنها قال قالت النبيّ: لا هجرة) أي: من مكة

(بعد الفتح) أي: فتحها، وجاء في حديث للبخاري مرفوعاً «لا هجرة بعد فتح مكة» وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة.

وذلك أن الهجرة: أي مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام كانت واجبة على من بمكة فيجب على من أسلم بها أن يهاجر منها إلى المدينة لكونها كانت دار كفر فلما فتحت صارت دار إسلام، أما الهجرة من المواضع التي لا يتأتى إقامة أمر الدين فيها فهي واجبة اتفاقاً، وعلى ذلك يحمل حديث «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار»

قال الخطابي: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا، فأمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ويزول عنه الأذى. والآخر الهجرة من مكة إلى المدينة لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين، فكان الواجب على من أسلم أن يهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حدث حادث استعان بهم في ذلك، فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك، إذ كان معظم الخوف من أهلها، فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد مستعدين لأن ينفروا إذا استنفروا.

يتضمن الحديث على هذا القول معجزة لرسول الله، وهي أن مكة تبقى دار الإسلام لا يتصوّر منها الهجرة.

وقيل معنى الحديث: لا هجرة بعد الفتح، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح.

قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (الحديد: ١٠) الآية اهـ

(ولكن جهاد ونية) كلمة لكن تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها: أي: المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نية خالصة تعالى كطلب العلم والفرار بدينه ونحوه.

وتحصيل الخبر بسبب الهجرة قد انقطع بالفتح، ولكن حصلوه بالجهاد والنية

(وإذا استنفرتم) أي: طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد، ويحتمل العموم أي إذا استنفرتم إلى الجهاد ونحوه

(فانفروا) أي أخرجوا

الحديث الثاني

(وعن أم المؤمنين) أي: في الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، دون نحو النظر والخلوة، وكذا سائر أمهات المؤمنين، وهو أب للمؤمنين في الرأفة والرحمة والمراد من نفي أبوته في الآية أبوة النسب والتبني

(أم عبد الله) كناها بابن أختها أسماء «عبد ابن الزبير»

(عائشة) الصديقة بنت أبي بكر الصديق عبد ابن أبي قحافة عثمان

(رضي الله عنها) وعن أبيها وجدها، تزوّجها بمكة وهي بنت ست سنين، بعد تزوّجه بسودة بشهر، وقبل الهجرة بثلاث سنين ودخل بها في شوّال منصرفة من بدر سنة ثنتين من الهجرة، وهي بنت تسع سنين، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة، وتوفيت سنة سبع أو ثمان وخمسين لثلاث عشرة بقيت من رمضان بعد الوتر، وصلى عليها أبو هريرة لإمارته على المدينة حينئذٍ من قبل مروان

(فإذا كانوا ببيداء) في رواية مسلم: بالبيداء. وهي أرض ملساء لا شيء فيها

(وفيهم أسواقهم) والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم

(و) فيهم (من ليس منهم) أي: ممن خرج بقصد القتال وإنما وافقهم في صحبة الطريق

(قال) مجيباً عما سألت عنه: بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم.

وقد روى الشيخان عن ابن عمر مرفوعاً رضي الله عنهما «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم»

(يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملة القوم تابعهم ومتبوعهم لشؤم الأشرار

(ثم يبعثون) ويعاملون عند الحساب

(على نياتهم) فيعامل كل بقصده من الخير أو الشر.

وفي الحديث: أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم.

وفيه: أن الأعمال تعتبر بنية العامل،

وفيه: التحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطرّ إلى ذلك.

الحديث الأول

(وعن أمير المؤمنين) أول من لقب به من الخلفاء، أما أول من لقب به مطلقاً فعبد الله بن جحش في سرية

(الأعمال) هي حركات البدن فتدخل فيها الأقوال ويتجوّز بها عن حركات النفس وأوثرت على الأفعال لئلا تتناول فعل القلب غير المحتاج للنية، كالتوحيد والإجلال والخوف لصراحة القصد به، والنية لئلا يلزم التسلسل أو الدور المحال.

(بالنيات) وهي قصد الشيء مقترناً بفعله إلا في الصوم والزكاة للعسر، فإن تراخى الفعل سمي عزماً.

(وإنما لكل امرىء ما نوى) وهذه الجملة لبيان أن جزاء العامل على عمله بحسب نيته من خير أو شر، وبيان أن العمل لا يجزى إلا إن عينت نيته، فتختص حينئذٍ بما يعتبر في نيته التعيين من نحو صلاة الفرض والنفل المرتب، أو تعم مطلق العبادة المعتبر فيها النية ويراد أن الذي له من عمله الموجود شرعاً بالنية هو ما قصده به من وجه الله سبحانه فيثاب أو الرياء للعباد فيمنع الثواب.

(فمن كان هجرته) والهجرة لغة؛ الترك، وشرعاً؛ مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة.

وحقيقتها مفارقة ما يكرهه الله إلى غيره، وكانت أول الإسلام إما من مكة إلى الحبشة أو منها ومن غيرها إلى المدينة، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

والمراد بها هنا مفارقة الوطن إلى غيره سواء مكة وغيرها، ولا يضر في التعميم كون الحديث له سبب خاص كما سيأتي بيانه لأن صورة السبب لا تخصص لكنها داخلة قطعاً.

(امرأة ينكحها) قال: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» وتنبيهاً على سبب الحديث وإن كان لا يخصص كما تقدم.

وسببه كما في «التوشيح» للحافظ السيوطي ما رواه سعيد بن منصور في «سننه» بسند على شرطهما عن ابن مسعود قال: «من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له مثل أجر رجل هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له مهاجر أم قيس»

وفي «فتح الإله» : السبب ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود قال: «كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس»

قيل: واسمها قتيلة بوزن قبيلة، ولم يعين اسمه ستراً عليه وإن كان ما فعله مباحاً لما يأتي. وعلى هذا فذكر الدنيا إما زيادة على السبب تحذيراً من قصدها، أو لأن أم قيس انضم لجمالها المال فقصدهما مهاجرها، أو لأن السبب قصده نكاحها، وقصد غيره دنيا.

(البخاري) ولد ثالث عشر شوال سنة (١٩٤) أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة عيد الفطر سنة ٢٥٦ ست وخمسين ومائتين.

(مسلم) ولد الإمام مسلم سنة (٢٠٤) أربع ومائتين، ومات في رجب سنة (٢٦١) إحدى وستين ومائتين.

(هما أصحّ الكتب) المحدثون جعلوا الصحيح سبعة أقسام: أعلاها ما خرجاه، فما انفرد به البخاري فما انفرد به مسلم، فما كان على شرطهما، فما كان على شرط البخاري، فما كان على شرط مسلم، فما صححه معتبر وسلم من المعارض.

وقول الشافعي: لا أعلم كتاباً بعد كتاب الله أصحّ من «موطإ» مالك إنما كان قبل ظهورهما. فلما ظهرا كانا بذلك أحق،

والجمهور على أن ما أسنده البخاري في «صحيحه» دون التراجم والتعاليق وأقوال الصحابة والتابعين أصحّ مما في مسلم، لأنه كان أعلم منه بالفن اتفاقاً مع كون مسلم تلميذه وخريجه، ومن ثم قال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، هذا وإن لم يلزم منه أرجحية المصنف إلا أنها الأصل.

باب الإخلاص

قيل: الإخلاص التعرّي عما دون الله تعالى.

وقيل: الإخلاص إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقربّ إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى.

وقيل: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة أي: الظاهرة والأعمال والأقوال والأحوال الخفية.

وقيل: الإخلاص تصفية العمل عن شوائب الكدر.

(قال الله تعالى) أي: عما لا يليق بشأنه سبحانه

{وما أمروا} أي: اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل

{إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} أي: موحدين لا يعبدون سواه. قال بعضهم: الإخلاص تصفية العمل عن شوائب الكدر

{حنفاء} مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، أو حنفاء حجاجاً

{ويقيموا الصلاة} أي: المكتوبة في أوقاتها

{ويؤتوا الزكوة} عند وجوبها،

{وذلك دين القيمة} أي: الملة المستقيمة أو دين الجماعة القيمة

قوله تعالى: «وما أمروا إلخ» استدل به على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص لا يكون بدونها

(وقال تعالى) : {لن تنالوا البر} أي: لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير، ولن تنالوا برّ الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة، وقوله:

{حتى تنفقوا مما تحبون} أي: من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الحياة ومفاداته للناس والبذل في طاعة الله والمهجة في سبيله،

روي «أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحبّ أموالي بيرحاء فضعها حيث أراك الله تعالى. فقال: بخ بخ، ذاك مال رابحـ أو رائحـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» .

«وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيلالله، فحمل عليها رسول الله أسامة، فقال زيد: إنما أردت أن أتصدق بها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى قد قبلها منك»

وذلك يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وأن الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحب.

وقوله: {وما تنفقوا من شيء} محبوب أو غيره

{فإن الله به عليم} فيجازيكم بحسبه.

وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}

كان أهل الجاهلية يلطخون البيت بدماء البدن فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية، والنيل لا يتعلق بالبارىء تعالى لكنه عبر به تعبيراً مجازياً عن القبول، والمعنى لن يصل إليه.

والمعنى: لن يصعد إليه أو لن يصل إليه لحومها ولا دماؤها ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجه الله فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ومنه الحديث «إنما الأعمال بالنيات»

قال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق} (الملك: ١٣، ١٤) (فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء)

وفي الآيات تنبيه للموفق على الإخلاص وتحذير له من الرياء ولا يغترّ بخفائه ظاهراً فإن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، لا تخفى عليه وساوس الصدور.